أيوب رفيق ( البطولة )
مُقَابِلَ الرَّسَائِل النَّبيلةِ الَّتِي تَضْطَلعُ كُرَةُ القدمِ بِمُهِمَّةِ تَرسيخها في صفوفِ المُتابِعينَ قَبْلَ الأَنصارِ ، يَحْدُثُ أَنْ تُرتكبَ بِإِسْمِ المستديرةِ مَجَازِر مُشينَة و جرائم على قدْرٍ كبيرٍ من الشَّناعَةِ ، يَرُوحُ ضَحِّيتَها شبابٌ في مقتبلِ العمرِ و فئاتٍ سنية أُخْرَى لا ذَنْبَ لَهَا ، سِوَى الخُضوعَ لقدرٍ وَضَعها في الزمانِ و المكانِ غير المُناسبيْن .
هِي ظَاهِرَةٌ اخْتارَت التَّسَلُّلَ إلى الجِسمِ الرِّياضي و بَثِّ مشاعِرِ الأَلَمِ و الأسى في أوصالِهِ ، عِوَضَ إِفساحِ المَجَال أمام سَرَيَانِ الروحِ الرِّياضية في أعماقِ لُعبةٍ ما فَتِئَتْ تَحرصُ على فتحِ البابِ لِسَيادَةِ قِيمَ الودِّ و التآخي بين جماهير الأندية و الفرق .
أَعْمالُ الشَّغَبِ المُرتكَبةِ دَاخِلَ و خارجَ الملاعب الرياضية ، صارت في الألفيةِ الثالثةِ بُعبعاً يقضُّ مَضْجَعَ الجميعِ ، مُخلِّفاً الضحايا و مُزهقاً الأرواحَ ، فيما يُشبهُ حرْباً ضروساَ تَكْتِمُ أنفَاسَ المجتمعِ المغْربي و تَحْصِرُهُ ضمن دائرةٍ يَعُمُّهَا الهَلَعُ و الذُّعْرُ .
أُسَرٌ تَضِيعُ في فَلَذَاتِ أَكْبَادِها و تَدْفَعُ فَاتُورَةَ الشَّغَبِ
بِصوتٍ مُتَهدِّجٍ يَمْتلُئ بِنبْرَةِ الحُزْنِ تارةً و الإستنكار تارةً أخرى ، راحَت تُعيد شريطَ الذِّكرى المشؤومة أَمَام أعْيُنِنَا . تَروي بأنفاسٍ متلاحقةٍ حكايةَ مصرعِ إبنها الذي قَصَدَ الملعبَ ذَاتَ أَحَدٍ ، مُتِّقداً بحماسٍ مُنْقطعِ النَّظيرِ و انْدفاعٍ سلمي ، فبَاغتَتْهُ الموتُ و عَادَ جثةً هَامدةً في نعشٍ أُقْبِرَتْ فيه أَحلامه و أمانيه .
أُمُّ المرحومِ زَيْد فايز الذي لَقِيَ مصْرَعَهُ بالطريقِ السَّيارِ الرابطِ بين مدينتيْ القنيطرة و تطوان سنة 2012 ، تحكي بلَوْعَةِ الفُراقِ قِصَّةَ فقدانِ إبنها الذي انْقَادَ لِهُجُومٍ من طرف جماهير محسوبة على فريق النادي القنيطري ، قبل أن تَدْهَسَهُ سيارة مجهولة و تُرديه قتيلاً بينما كان يحاول التخلص من أثار و تداعيات المواد الحَادَّةِ التي رشَقَتْهُ بهِ الجماهيرُ المذكورة .
" نفسيتنا تدمرت ، جميع أفراد الأسرة تأثروا بما حدث للشهيد زيد ، إبني دوما ما كان ينأى بنفسه عن إثارة الجدل ، صدى سمعته الطيبة كان يتردد لدى الجميع " ، تقول السيدة أمينة طحيشة بلهجة مُتحسرة ، مُضيفة : " لحظة خروجه من المنزل في اتجاه القنيطرة ، انتابني إحساس يُنبئ بوقوع شئ ما ، لم أكن أود ذهابه إلى الملعب " .
أَعْمالُ الشغبِ مُقتصرةٌ على المدنِ الكبرَى فَحَسْب ، بين أنديةٍ كبرى ذاتُ شعبيةٍ جارفةٍ على الصعيد الوطني ، من قبيل الرجاء و الوداد البيضاويين و الجيش الملكي ، و لا شَئْ عدَا ذَلِكَ ، إذ يَسْتحِيلُ وقوعُ مثل هذه الممارسات في المدن الصغرى . هكذا كانت تَحْسَبُ أم الضحية زيد ، مُستبعدةً اندلاعِ شرارةِ التوتر و الصراع بين جماهير الأندية الصغرى .
النَّمُوذجُ السالف الذِّكرِ ، ليس سوى غيضٍ من فيضِ النماذج التي تعكس حجم الخسائر البشرية التي تَكبَّدتْهَا مجموعة من الأسر المغربية ، بفعل ممارساتٍ طائشةٍ لقوافل من الشباب و القاصرين الذين تَدَثّرُوا بِجُبَّةِ الجُنَاةِ و أنشأوا يُسقطونَ الضّحَايَا . ففي غياب الإحصائيات الرسمية عن عدد الوفيات التي خلَّفتْهَا هذه الأعمال ، يَبْرُزُ الراحل زيد فايز و حمزة البقالي و غيرهما كأسماء أدَّت ضريبةَ الشغبِ بروحها و حياتها .
ظاهرةٌ مَردُّها ارتفاعُ منسوبِ العنفِ و تعاطي المُخَدرات
" تنامي هذه الظاهرة و تصاعد حدتها في الآونة الأخيرة ، يُعزى إلى التحول الذي طرأ على البنية النفسية للشباب . هي أعمال تتطور بقدر ما يرتفع منسوب العنف في المجتمع المغربي ، حتى بات سيد الموقف في الأسرة و المدرسة و مقرات العمل " ، يُصرح أستاذ علم النفس ، الدكتور فيصل طهاري بشأن الدواعي الماثلة خلف نشوب أحداث الشغب .
ذاتُ المُتحدثِ ، يُردفُ في تصريحٍ للبطولة بأن غيابَ لغة التواصل داخل المجتمع يُرخي بظلالهِ على فئة الشباب ، حيث أضحت الملاعب الرياضية و مُحيطها بالنسبة إليهم مَرْتعاً لتفريغِ الكبتِ النَّفسي الذي يعانُونَ مِنهُ بفعلِ القمع الذي يتعرضون له من قبل مكوناتِ المجتمعِ .
الأخصَّائيُ و المُعالجُ النفسيُّ ، يُعرِّجُ في جردِهِ للأسباب المسؤولة عن هذه الظاهرة على انْتِفَاءِ المرافق و المساحات التي يُمكن فيها للشباب التعبير عن ذواتِهِمْ ، فالوقوف كحَجَر عثرة أمام إثبات أنفسهم يدفعهم إلى محاولة تَكْرِيسِ وُجودِهِمْ بأي وسيلةٍ ، حتَّى لوْ كَانَتْ مُتمَثِّلةً في أعمال الشغب .
" رغم غياب إحصائيات يُمكنها عكس واقع الأمر ، بيد أنني يُمكنني التأكيد من موقعي بأن نصف الشباب و القاصرين الذين يرتادون الملاعب مُدمنون على تعاطي المخدرات و الأقراص المهلوسة ، ذلك أن هذه الأخيرة تحول المرء من وضعية خجل إلى هيجان و جرأة غير معهودة " ، يُبرز الدكتور طهاري دور المخدرات في تنامي الظاهرة .
هذا الخيطُ الَّذي حَاكَهُ الدكتور طهاري ، يَلْتَقِطُهُ وزيرُ الدَّاخِلية ، محمد حصاد الذي أكَّد ضمن تصريحٍ إعلامي سابق أن المخدرات و الأقراص المُهلوسَة تلعب دوراً حاسِماً في تصاعُدِ وتيرةِ الشغَبِ في الرياضة المغربية ، مُعترِفاً بالكمِّ الهائلِ للشباب الذين يتعاطون هذه الممنوعاتِ و يُدمِنونَ عليها .
" الإلترات " المُسانِدَةُ للأندِيَة في قفَصِ الإتِّهام
في غَمْرَةِ التذمُّر الذي يتملَّك فئة واسعة من المُتابعينَ إبان اندلاع أعمال الشغب ، يذْهَبُ بعضهم إلى إلقاء اللوم و تحميلِ المسؤوليَةِ للفصائل المؤازرة للأندية " الإلترات " ، كون ميلادها سنة 2005 شهد على تفاقم ظاهرة الشغب و العنف الرياضي ، فيما لم يَكُن هذا الموضوعُ يُطرحُ من قبل بهذه الحدَّةِ التي أصبح عليها اليوم .
هَذِهِ النّظرية ، يَرْفُضُهَا أحد الأَعْضاء البارِزين لفَصِيلِ " إلترا عسكري " ، يوسف الشعبي الذي يُخلي المَسْؤوليةَ عن ظَاهِرة " الإلترا " كدَاعِي من الدّواعِي المُؤَسِّسَة لارتفاعِ مَنْسُوبِ الشغب الرياضي : " ظاهرة الإلترا رَأَتْ النُّور بالمغرب بغَرضِ مُحَاكَاةِ عقلية الأندية العريقة و بهدف التوعية و الإرشاد و لا شئ غير ذلك " .
" لكل من يُكيلُ الإتهامات إلى الإلترا ، علَيْه اعْتِماد نظرة شمولية و غير سطحية في هذا الصدد ، ذلك أن الإلترا غير مسؤولة عن تنامي العنف و الهدر المدرسي و تعاطي المخدرات ، و هي كلها ظواهر تقف بشكل أو بأخر عن نشوب هذه الأعمال ، بل إن الإلترا تُعد من بين المتضررين من هذه المظاهر " ، يقول الشعبي مُحتجا على هذا الطرح .
أما عن الأدوار التي تقوم بها الفصائل المُساندة في الحد من الشغب ، فتتجلى في الإرشاد و التوعية و كذا الحث على التشجيع السلمي للأندية ، " يُمكننِي التأكيد أن الإلترا ساهَمَت عكس ما يدعي البعض في التخفيف من وطأة هذه الظاهرة التي كانت تجتاح الملاعب قبل ميلاد الفصائل " ، يُردف يوسف الذي يمتهن الصيدلة في تصريح لموقع " البطولة " .
المُناصر لنادي الجيش الملكي ، مضى يُعدّْدُ الأطرافَ المسؤولة عما وصلت إليه الظاهرة من تفاقم : " هذه الأحداث نتيجة منظمومة مجتمعية فاشلة و منهجية تعليمية أثبتت إخفاقها ، كما أن الإعلام يلعب دورا في هذه الأعمال ، حيثُ يعْمدُ إلى سرد قصص المجرمين و إضفاء بعض الأسطورة على حكاياتهم من خلال البرامج التي تُبث على القنوات الرسمية " .
تفاعُلٌ من الدولة يَعْجزُ عنِ الحَدِّ من تفاقُمِ الظاهرة
تَناثُرُ أعمال الشَّغَب في ربوع الوطن و الأعْدَاد المُهْوِلَة للضحايا الذين يؤدون ضريبتها ، حَمَلَ الحكومة المغربية و الجامعة الملكية لكرة القدم على إبْداءِ رد فعْلٍ إزاء الأبعاد الخطيرة التي أمست تأخذها هذه الممارسات ، ما جعلها تُخرج قانونا لمكافحة الشغبِ إلى حيِّزِ الوجود ، في سبيلِ تطويق الظاهرة .
القانُونُ الذي صادقَتْ عليه السلطة التشريعية عام 2011 و انطوى على مجموعة من البُنودِ ، من قبيلِ منع ولوج القاصرينَ دونَ سن 16 إلى الملاعبِ بمفردهم و إنْزالِ عقوباتٍ ثقيلة على مقترفي الشغب بما فيهَا غراماتٍ ماليةٍ و اعتقالات لمددٍ تتراوح ما بين سنة و عشرة سنوات ، كُلها فصول قانونية ظلت حبيسة الورق ، دونما تفعيلٍ حقيقي على أرض الواقع ، حتى أن حالات الشغب أخذت في التضاعف خلال الثلاث سنوات الأخيرة .
هذا المُعطَى ، أَلْهَبَ انتقادات مجموعة من الفعاليات التي رَمَت الجهات المسؤولة بالتهاون في إعمال و إرساء القوانين التي تم سنها ، إذ يُشدِّدُ الإطار الوطني ، فؤاد الصحابي في تصريح إعلامي سابق على ضرورة زجر و ردع المخالفين ، مُشيرا إلى عدم إثبات هذه القوانين لنجاعتها في الحد من الشغب عند ميلادها على الأقل .
كيف السبيل إلى القضاء على الشغب ؟
الشروع في التنقيب عن الحلول الكفيلة بالإجهاز على الشغب كظاهرة متشعبة ذات عدة تفرعات ، لا يجوز دون مراعاة جميع الجوانب سواء النفسية ، الإجتماعية أو الأمنية . ذاك ما أجمع عليه جل المُتدخلين الذين يشددون على ضرورة و حتمية اعتماد مقاربة شمولية بغية الحد من الإمتداد و الزحف الذي تشهده الظاهرة المذكورة .
" ليس لي الحديث عن المقاربة النفسية بمعزل عن المقاربات الأخرى ، فمعالجة الشغب يمر حتما من تفعيل الجانب النفسي و الأمني الزجري و كذا الإجتماعي ، إذ لا يجوز اعتماد المقاربة الأمنية و الردعية بمفردها ، دون غيرها " ، يقول المعالج النفسي ، فيصل طهاري ، مُضيفا : " يجب التنسيق مع الفصائل المساندة للأندية من أجل الضبط و التحكم ، لأن معادلة الشباب إلى الشباب هي الحل الأنجع " .
في ذات الصدد ، يُصرح الشعبي بشأن الحلول التي يمكن اعتمادها للإجهاز على هذه الظاهرة بالقول : " من جهتنا نضطلع بمهام الإرشاد و التوجيه ، أما السعي إلى النيل من هذه الظاهرة فيبرز في تضافر جميع المكونات و تفعيل منهجية كاملة الأركان " .
أما والدة الراحل و المرحوم ، زيد فايز ، فقد آثرت التحدث عن الحلول بتوجيه رسالة إلى الشباب الذين يؤثثون الملاعب : " رسالتي إلى الشباب هي أن يقصدوا الملاعب بهدف التشجيع و أن يراعوا خوف أولياء أمورهم بخصوصهم ، كما أطلب منهم تفريغ مكبوتاتهم في إنشاد أغاني سلمية و مناصرة فرقهم بطرق لا تمس الآخر " .