كرونو

None

شارع روسيا (2) | جهل الروس والسخرية من مصر والسعودية!

بقلم - محمود ماهر (البطولة / موسكو - روسيا)


في بلداننا العربية، شوارع وميادين باسماء دول ومدن عالمية، جميعها حدث لأسباب سياسية أو دبلوماسية، ولم يحدث في يوم واستغلت دولة عربية واحدة نجاحًا رياضيًا لأحد فرقها لإطلاق اسم شارع أو ميدان على اسم الدولة أو المدينة التي شهدت ذلك الإنجاز، فهل يتحقق هذا الصيف مع أحد الفرق الأربع المشاركة في للمرة الأولى في التاريخ، ونرى شارع لروسيا في أو أو أو ؟

شارع روسيا.. سلسلة حلقات يومية تأتيكم من عين الحدث، لتغطية أدق تفاصيل كأس العالم 2018 الذي لم يسبق واحتضنته بلاد القياصرة رغم المساهمات الجليلة للاتحاد السوفيتي في تطوير اللعبة من خمسينيات إلى ثمانينيات القرن الماضي.

“روسيا” لا زالت بالنسبة للشريحة الأعظم من القراء ومستخدمي الإنترنت في الوطن العربي، من الدول الغامضة بسبب حاجز اللغة الذي لعب دورًا هامًا في تعطيل وصول المعلومة بشكل دقيق وفي إطارها الصحيح.

وسيستغل (البطولة) الفرصة لتوضيح الرؤية أكثر عن واحدة من أقدم بلاد الفن والأدب في أوروبا، على أن تشمل السلسلة أسرار نَنشرها للمرة الأولى بصور ولقطات يقدمها مراسلكم من قلب الحدث “محمود ماهر”.


الجهل الجميل



عشنا معكم لحظات استثنائية خلال تغطيتنا لكأس القارات 2017 من موسكو وبطرسبيرج وكازان، حاولنا رصد بعضها، ورأينا أن نترك البعض الآخر لحين العودة مرة أخرى إلى هنا للتحضير لتغطية البطولة الحلم “كأس العالم”، فلا يمكن أن نُصدر أحكامًا على مدى حب وولع البلد بكرة القدم من عدمه، من خلال بطولة ككأس القارات، بالتالي أجلنا الحديث عن ذلك ذلك “الجهل الروسي” باللعبة الشعبية الأولى في العالم لهذا الصيف فقط.


جهل الروس قد يبدو عند البعض "جهلاً جميلاً" لأنهم شعب غير مؤذ في الشوارع، ويتعاملون بفرح وحب مع الجميع، أعتقد أنهم من أرقى الشعوب الأوروبية وأكثرهم تعددًا للثقافات وقراءة للكتب واطلاعًا على الروايات الطويلة.


الارتباط الوثيق بالثقافة دفع الكثير من الروس نحو القراءة حتى أثناء استخدام السلالم الكهربائية في محطات المترو، ولهذا السبب توقعت أن تكون كرة القدم من ضمن أولوياتهم وأن يكونوا على ثقافة ودراية بأدق أدق تفاصيلها، لكن هذا لم يكن يَعني أي شيء.



في العام الماضي حاولت التحدث باستفاضة عن كرة القدم وكأس العالم والمنتخبات المرشحة للتأهل مثل المغرب ومصر، لم أجد مَن أتحدث معه ويبادلني الشغف سوى من الجنسيات المزدوجة (الروسية البولندية والأوكرانية والبيلاروسية)، حتى أن الأمر وصل لحد جَهل سكان منطقة “دينامو” بمكان تمثال أسطورة الأساطير “ليف ياشين”، الحارس الوحيد في التاريخ الذي تحصل على جائزة أفضل لاعب في العالم، ومَن قادني إلى التمثال في النهاية كان شخصًا شَرب حب الكرة في مصر لسابق عمله في مدينة “شرم الشيخ”.




قلت آنذاك “ربما يتغير الحال مع اقتراب كأس العالم”، واعتقدت ألا يكف أحد عن التحدث معي عن المنتخب المصري المعروف فعليًا هنا بـ “منتخب صلاح”، إلا أنني وجدت الأجواء كما هي، عادية وهادئة، والشوارع ساكنة، والتجمعات الجماهيرية قليلة، والأقمصة والأعلام غير مُتداولة في الشوارع والمقاهي بالميادين الشهيرة كما في دول عربية مثل مصر ولبنان والمغرب والإمارات.


كل مَن حدثني في السابق عن مصر في كازان وبطرسبيرج العام الماضي حدثني عن الإسلام والأثار والفراعنة، وعاد ليحدثني من جديد في نفس القصص، حتى صديقتي الجديدة “ليزا” الفتاة التي تعمل في مركز توزيع بطاقات المشجعين (FAN ID) بالقرب من الميدان الأحمر Red square، قالت لي “حلمي هو الذهاب إلى مصر من الصغر كي أرى الأثار والأهرامات، وأردت تعلم اللغة العربية، لكن والدتي منعتني من ذلك، وها أنا أتعلم اللغة الصينية كما ترى، خلال فترة عملي كمتطوعة في المركز الخاص بتوزيع بطاقات المشجعين، أحاول التدرب على قواعد اللغة الصينية”. يا لها من فتاة مُجتهدة، أليس كذلك؟.



في السنة الماضية أيضًا، كنت أشاهد الأطفال يرسمون علم البرتغال واسم كريستيانو رونالدو على وجوههم قبل مباراة البرتغال وروسيا في ملعب (زينيت) ببطرسبيرج تحت إشراف أبائهم وأمهاتهم، والملاعب لا تمتليء إلا بعد مرور 15 أو 30 دقيقة من بدء المباراة، وحدث ذلك في مباريات روسيا التي ودعت من الدور الأول أمام البرتغال والمكسيك.


تشيكوفسكي ودوستوفسكي أهم من المونديال



داخل المركز الصحفي الخاص بملعب المباراة النهائية لكأس القارات (زينيت)، كان أفراد مكاتب المدن المضيفة لمباريات المونديال يسألونني عن وضع تصفيات المونديال في أفريقيا، وهل للدول العربية فرصة للتواجد أم لا، ذلك أثناء تسليم الهدايا للصحفيين واستعراض تصاميم الملاعب الجديدة مثل إيكاترينبرج وسامارا وفولجوجراد.


الشعب الروسي يعيش يومه على ألحان موسيقى “تشيكوفسكي” ويقضي ساعات فراغه في قراءة كتابات “دوستوفسكي”، ويُحب فن الباليه، ويهوى الرياضة ويمارسها، ولا يَعبد كرة القدم مثل شعوب البحر المتوسط وأنجلوساكسون، هذا ما أيقنته مع مرور الوقت، خاصةً بعد عودتي هذا الصيف وتجولي في شوارع وميادين ثلاثة مدن مختلفة الطباع والعادات.


موسكو من أضخم المدن حول العالم، هي صاخبة سريعة ساهرة لا تعرف النوم، من الصعب أن تزور كل معالمها في يوم أو يومين أو حتى في أسبوع، إلا أن الانطباع الأول يدوم، فقد لمست من النظرة الأولى لها أن الروس ليسوا مجانين بالكرة مثل شعوب أميركا اللاتينية وأفريقيا، واهتمامهم المتواضع بتفاصيل المنتخبات المتأهلة لكأس العالم ومعلوماتهم الهشة وسخريتهم من المنتخبات العربية خير دليل على ذلك، خاصةً مصر والسعودية، رغم وجودهما مع روسيا في نفس المجموعة الأولى بالمونديال.



شعبية الهوكي الجليدي والتلزج على الجليد والكيرلينج والتنس وألعاب القوى، هي الألعاب المفضلة بالنسبة لهم حتى بعد أن طاف كأس العالم كل أنحاء وأرجاء المدن الروسية منذ نهاية العام الماضي حتى مطلع هذا الشهر.


الجهل بكرة القدم قاد شريحة كبيرة نحو السخرية من مستوى المنتخب السعودي قبل أيام من ضربة بداية المونديال على ملعب لوجنيكي، يوم 14 يونيه، وقالت لي مدونة روسية تُدعى (فيكتوريا ناتروبينا) «كرة القدم ليست كل شيء بالنسبة لنا، نحن نمارس العديد من الرياضات الأخرى، والأكثر شعبية هو الهوكي الجليدي، انها لعبة رائعة، هل جربت أن تلعبها من قبل. لا؟ عليك أن تجرب، ستحبها. المنتخب السعودي؟ نحن لا نعرف عنه أي شيء، لقد خسروا قبل عدة سنوات من ألمانيا بنتيجة كارثية، ولا يوجد أي لاعب معروف».



وحاولت وزارة الرياضة السعودية تصحيح الصورة المأخوذة عن المنتخب لتسويقه في وسائل الإعلام قبل 6 أشهر من المونديال، بدفع مبالغ مالية لأندية فياريال وليجانس وليفانتي لمنح الثلاثي “سالم الدوسري ويحيى الشهري وفهد المولد” فرصة للعب بضع مباريات خلال النصف الثاني من موسم 2018/2017 في الدوري الإسباني، ولكن كما يقول المثل “جه يكحلها عماها”، فلم يستفد اللاعبين من الاحتراف، ولم يستفد المنتخب، وكانت السخرية والتهكم على السعودية مُستحقة.


السعودية خسرت في الوديات التي خاضتها أمام بيرو والبرتغال بنفس النتيجة (3/صفر) وأمام إيطاليا (1/2)، وأمام بلجيكا (4/صفر)، وأمام العراق (1/4)، وأمام بلغاريا (1/صفر)، واكتفت بالفوز على مولودوفا وهو منتخب غير مصنف، وانتصرت على بدلاء الجزائر واليونان اللذين فشلا في التأهل، وتعادلت مع أوكرانيا غير المتأهلة 1/1.


مدرب نادي زينيت سان بطرسبيرج السابق والمدرب الجديد لمنتخب إيطاليا «روبرتو مانشيني» حاول تحذير الروس من السعودية، واهتمت صحيفة (إكسبريس الروسية) بإلقاء الضوء على التصريح الذي أدلى به عقب فوزه الصعب على السعودية الشهر الماضي.


قال مانشيني «السعودية فريق غير معروف وهو من أسهل الفرق في مجموعة روسيا بالمونديال، لكن هناك أكثر من لاعب سريع في خط المقدمة، ولا يمكن الاستهانة بهم في كل الأحوال، على روسيا أن تحذر».



أما السخرية من مصر فتراجعت مما كانت عليه العام الماضي بعد تمكنها من إقصاء غانا في تصفيات المونديال، وبالطبع بسبب ما قدمه صلاح مع ليفربول في الموسم الماضي بتسجيل عدد هائل من الأهداف وانتزاعه للعديد من الجوائز، كما أن مصر اكتسبت سمعة جيدة في كرة القدم العالمية مقارنة بباقي منتخبات الوطن العربي بعد تحقيقها للقب أمم أفريقيا 8 مرات، ولهزيمتها إيطاليا في كأس القارات 2009.


ويقول المدون الروسي (سيرجي آرميسكوف) للبطولة “فرص مصر في التأهل إلى الدور الثاني تراجعت من بعد إصابة محمد صلاح، طريقة مصر معروفة لدى الجميع، الدفاع ثم الدفاع، ومن دون صلاح لا توجد للفريق أي خطورة على المرمى. لو لم يعد صلاح إلى التشكيل الأساسي في الوقت المناسب أعتقد أن فرص أوروجواي وروسيا ستكونان أكبر مصر، وبالمناسبة أنا أتمنى مشاهدة صلاح يلعب، هذا اللاعب يعجبني. بالنسبة السعودية فلا أعرف عنها أي شيء، سامحني”.


شعبية كرة القدم هي الأهم



عدم الاهتمام بالتفاصيل والجهل بالمعلومات البسيطة والأساسية عن كرة القدم بالنسبة لسكان دولة ستنظم المونديال، قد يراه البعض أمر بغيض، وعار على الفيفا مَنح دولة غير مهتمة بكرة القدم، وإن السياسة حقًا تدخلت في الأمر كي تخطف روسيا التنظيم على حساب ملف إنجلترا عام 2010.


مما لا شك فيه المشجع العربي وعشاق كرة القدم ستتأثر متعتهم عند التحدث مع الروس بسبب اللغة من جهة وبسبب ضعف ثقافتهم الكروية من جهة أخرى، بالضبط كما حدث معهم في كوريا واليابان وجنوب أفريقيا، وسيحدث معهم في قطر عام 2022، لكن يجب أن يساهم كل محب حقيقي لهذه اللعبة في نشرها بشكل سليم وصحيح ويعطي كل منطقة وكل دولة غير ناضجة “كرويًا” فرصة حقيقية للتطور والنهوض من هذا السبات العميق.


بعد زيارتي لمدن روسية مثل كازان في إقليم ترتستان، ثم بعد عودتي من جديد إلى روسيا هذا العام وزيارة مدينتي “نورالسك ودودينكا” في إقليم سيبيريا، تأكدت أنني كنت على خطأ بنقد اختيار الفيفا، يجب أن ننظر للقضية ببُعد إيجابي دون تعصب.



روسيا هي أكبر دولة في العالم، وإقليمها العظيم الذي كان مستعمرًا من أحفاد جانكيز خان في القرون الوسطى، مساحته تفوق مساحة كل دول أوروبا مجتمعة.


ذلك البلد العظيم كان يحتضن في يوم من الأيام فريق الاتحاد السوفيتي، أحد أعظم الفرق في تاريخ كرة القدم من الخمسينيات وحتى نهاية الثمانينيات، ولا بد أن ينظم المونديال، كي تستعيد الكرة شعبيتها بعد تراجعها المخيف منذ انهيار الاتحاد السوفيتي مطلع التسعينيات.


هذا شر لا بد منه يا أصدقاء، أن يذهب تنظيم كأس العالم إلى تلك الدول التي لا تعرف الكثير عن اللعبة، إذا كنا حقًا نود تطوير اللعبة ورفع كفاءتها واكتشاف المزيد من المواهب، ونشر مبادئها في كل مكان حتى لو كان متجمدًا مثل إقليم سيبيريا، فلا يصح أن تُسمى كرة القدم (اللعبة الشعبية الأولى في العالم) وهي لا تُمارس كما ينبغي في بلد بحجم روسيا وفي قارتين مثل أستراليا وأميركا..لا يصح!.


ولمن فاتته الحلقة الأولى:

شارع روسيا (1) | الرجل الذي خان بوتين قبل المونديال


للتواصل مع الكاتب "محمود ماهر" : m.maher@elbotola.com

وللتواصل عبر تويتر: https://twitter.com/mahmudmaher

وللتواصل عبر انستاجرام: https://www.instagram.com/mahmoud.maheer/


أراكم غدًا في الحلقة الثالثة...



عرض المحتوى حسب: